مشهد سنوي من اعتزاز مربو الإبل بقطعان إبلهم، وهم يسوقونها بعد انقشاع ضباب الخريف، يقطعون وديان الجبال صعودًا إلى مرتفعاتها، شيوخًا وشبابًا، يتغنون بصوت حدائهم للإبل التي ظلت فترة موسم الخريف في السهول بعيدًا عن الأمطار وحفاظًا عليها من الانزلاق في التربة المشبعة بمياه الموسم الماطر.
مشاهد الإبل وهي في طريقها إلى أعالي الجبال يُطلق عليه محليًّا في محافظة ظفار اسم “خطلة الإبل”، وهي موروث وثقافة اجتماعية يحرص عليها رعاة الإبل مع بدايات بشائر موسم “الصرب”، وتمثل موسم الرعي الربيعي، حيث يقوم فيه ملاك الإبل بنقلها في مجموعات من السهول أو مناطق خلف الجبال إلى أماكن الرعي التي يصعب فيها الرعي مع بداية موسم الخريف، مرددين عددًا من الفنون التقليدية المغناة منها ” النانا، والدبرارت، والمشعير”، وتصاحبها بعض العادات الاجتماعية القديمة.
ويجتمع أهل المشورة وكبار السن للاتفاق على تحديد يوم “خطلة الإبل”، وتبدأ بعد اتفاق أصحاب الإبل كلٌ في منطقته، وفق سنن العُرف، ويظهر من خلالها التعاون للوصول بالإبل إلى مَبارِكها (مواضع جلوس الإبل)، ويتحلقون حول النار ويبيتون حولها في مجموعات تُسمى “مُجُّل” ومفردها “مجلُّت”، لتأتي كل مجموعة بإبلها الحلوب لتبرك قرب النار بحيث يستطيعون الوصول إليها إذا أرادوا حلبها، وجرت العادة على أن تُحلب كل الإبل في وقت واحد.
وعادةً ما يستقبل ملّاك الإبل الضيوف من مختلف مناطق المحافظة وخارجها الذين قدموا مستبشرين بهذه العادة السنوية، وتُظهر “خطلة الإبل” جانبًا اجتماعيًّا عند أصحابها، الذين يلتقون بعد فترة انقطاع للحديث عن فترة الرعي التي امتدت لمدة ثلاثة أشهر في السهول والوديان، إذ تضرب هذه الخطلة موعدًا مع الجميع للحضور واللقاء.
ويقول أحد ملّاك الإبل محاد بن سعيد العوائد:
في بداية موسم الخريف يبتعد أصحاب الإبل إلى المناطق الأقل تأثرًا بالخريف سواءً كانت في القطن أو السهل؛ حفاظًا على المراعي والإبل من خطورة الطرق أو الانزلاق، وعندما يوشك الخريف على الانتهاء يقترب أصحاب الإبل إلى مناطق ظل المطر استعدادًا “للخطلة”؛ بهدف التقليل من استخدام الأعلاف الحيوانية.
وتابع:
عندما يتوقف المطر ومع بشائر موسم “الصرب”، يتأكد أصحاب الإبل من جفاف التربة في الجبل، لتبدأ “خطلة الإبل” إلى الشعاب والأودية التي توجد بها الأشجار المحلية ومن أهمها المشط العربي “الصغوت” وغيرها من الأشجار الأخرى والنباتات التي تُكسِب الإبل مناعة وصحة، موضحًا أن “خطلة الإبل” مرتبطة ببقاء المرعى وظروف أصحاب الإبل قد تكون شهرًا تزيد أو تقل، وبعد ذلك يعود كلٌ منهم إلى موقعه الذي يسكن فيه بقية العام.
وحول قوانين وأعراف “خطلة الإبل” يقول أحد ملّاك الإبل سالم بن علي المهري:
“للخطلة” أعراف اجتماعية وقوانين يتمسك بها كل رعاة الإبل، إذ لا تتجه الإبل إلى الوديان إلا بعد انتهاء تساقط الأمطار وجفاف الأرض؛ بهدف الحفاظ على الغطاء النباتي ليتم بعد ذلك تحديد موعد انطلاقها، ويُبلغُ بها الجميع ويتجه كل قطيع إلى المكان المعروف “للخطلة”.
وعن التحضيرات لاستقبال “خطلة الإبل” يقول حامد بن علي المشيخي، أحد ملّاك الإبل:
يبدأ رعاة الإبل بالاستعداد المسبق من خلال تجهيز (المبارك) وهي أماكن إقامة الإبل، وتوسيع مسارات الرعي التي تأثرت بفعل الأمطار، لافتًا إلى أن الإبل تسرح لترعى في أكناف الطبيعة بين الوديان والغابات الخضراء، ويتبعها الرعاة مستبشرين بشروق شمس “الصرب”، واصفًا رحلة سَوقَ الإبل إلى الجبال “بالممتعة”؛ لما يتخللها من المبيت في الأودية بعيدًا عن ضجيج المدن، حيث تُشعل مواقد النار ليلًا وسط هدوء الريف الذي يتخلله رزيم الإبل، والاستماع لحكايات كبار السن وقصصهم.
“خطلة الإبل” تنقل صورة أخرى من مشاهد الموروث الضارب بجذوره عبر التاريخ العُماني، لتروي للأجيال في الحاضر تجارب الأجداد وتنقل صورة حيّة لطبيعة الحياة في الماضي حول علاقة الإنسان بأرضه وتكييفه مع ظروف البيئة وطبيعتها في جميع فصول السنة.