في زوايا الأسواق التراثية بمحافظة ظفار، وعلى وقع أنغام وألحان الفنون التقليدية، تتنفس الصناعات الحرفية حياةً متجددة، تنقل عبق التاريخ إلى الحاضر، وتحمل بين تفاصيلها قصة وطن صاغ ملامحه الحرفيون العُمانيون عبر قرون طويلة، ولم تكن هذه الحرف مجرد أدوات للحياة اليومية، بل أصبحت مرآة تعكس الهوية، وتروي للزائر والمقيم، وللعالم بأسره، حكاية الأصالة والانتماء.
وفي محافظة ظفار..
يواصل الحرفيون العمل على إنتاج تراثي يمثل امتدادًا للهوية العُمانية المتجذرة في التاريخ، إذ تضم المحافظة عددًا من الحرفيين والصانعين المجيدين الذين يواصلون العمل على هذه الحرف والمهن والفنون، مشكّلين جانبًا مهمًا من جوانب الهوية العُمانية.
الدكتور أحمد بن عبد الرحمن بالخير أستاذ الدراسات اللغوية المشارك بجامعة ظفار، يرى في هذا التراث الحرفي والفني مثالًا متفردًا للهوية العُمانية، ويقول إنّ التنوع في التراث التقليدي في سلطنة عُمان يعود إلى تنوّع جغرافيتها وعاداتها، وأنَّ الحفاظ عليه هو حفاظ على الهوية الوطنية العُمانية.

وأضاف أنّ:
الموروث التقليدي ينقسم إلى قسمين هما، “التراث الثقافي اللامادي” والذي يعني العادات والتقاليد والأعراف واللهجات والأدب الشعبي والفنون التقليدية، و “التراث المادي”، وهو الحرف التقليدية وما تشتمل عليه من أدوات الزراعة والصيد والدباغة وصناعة الجلود والحديد والخشب والنسيج وصناعة الفخار والملبوسات وبناء البيوت.
ويقول إنّ:
التباين البيئي بين المحافظات شكّل لكل منطقة طابعها التراثي الفريد، فالجبال والسواحل والصحاري أنتجت تنوعًا غنيًّا في الفنون، من رقصات وأهازيج وأغانٍ، ارتبطت بعددٍ من المناسبات التي تتعلق بحياة المجتمع العُماني، والتقت في نغمة واحدة تعبّر عن الهوية العُمانية.
وفي أحد مشاغل صناعة الفخار في محافظة ظفار تُمسك إخلاص بنت علي المعشنية بقطعة خزف بلون ترابي ناعم، وتقول بفخر ” ليست مجرد قطعة طين، إنها إطلالة من الماضي على الحاضر، ورسالة للأجيال القادمة”.

إخلاص، رائدة أعمال لمشروع صناعة الفخار والخزف، و مدربة دولية معتمدة، ترى إنّ:
مهنة صناعة الفخار والخزف تمثل دورًا محوريًّا في نقل الموروث الثقافي للأجيال القادمة، من خلال الحفاظ على الحِرف التقليدية، وتعليم تقنياتها، وتجسيد الهوية العُمانية في كل قطعة تُنتج، فهي ليست مجرد صناعة، بل وسيلة لربط الماضي بالحاضر، وترسيخ القيم الجمالية والتراثية في وعي الشباب.
وقالت:
“يعد مشروعي أول مشروع خزفي في ظفار، وأول مشروع يستخدم “الديكال” في الخزف في سلطنة عُمان”، موضحة أنّ الديكال هو عبارة عن تصاميم مطبوعة على ورق خاص، يُنقل إلى سطح القطعة الخزفية، وتصبح آمنةً للاستخدام بعد الحرق في الأفران المخصصة للخزف.

ووضّحت أنها:
تحرص على تضمين رموز تقليدية عُمانية في منتجاتها مثل الزخارف الهندسية المستوحاة من العمارة العُمانية، ونقوش الأبواب الخشبية القديمة، بالإضافة إلى عناصر من الطبيعة وتفاصيل الجبال، لافتةً إلى أنّ هذه الرموز تحمل دلالات ثقافية عميقة، تعبّر عن الهوية العُمانية، والارتباط بالأرض، وجمال التفاصيل التي كانت ولا تزال جزءًا من الحياة اليومية في سلطنة عُمان.
وبيّنت أنّ:
الحرفي في سلطنة عُمان يعكس البيئة المحلية من خلال استخدام المواد الطبيعية المتوفرة مثل الطين العُماني وتجربة دمجه مع أنواع أخرى، واستخدام بعض المواد الطبيعية للتشكيل والنحت على القطع، إذ أنّ التصاميم في محافظة ظفار تُظهر الارتباط بالعادات والتقاليد وتقدمها بشكل عصري.

وعن أهمية الحرف والصناعة في الحفاظ على الموروث قالت إخلاص إنّ:
هذه الصناعات أسهمت في الحفاظ على العديد من القصص والتقاليد العُمانية، إذ تحمل بعض القطع رموزًا تحاكي الموروث التقليدي، مثل القلاع والحصون والتي تستمر في رواية حكايات الماضي للأجيال الحالية، خاصةً مع الترويج لها محليًّا ودوليًّا، مبينةً أنّ الحفاظ على هذه الحرف يُسهم في إبراز تنوّع التراث العُماني وجودة المنتجات اليدوية.
وأكدت على:
الوعي المتزايد في المجتمع العُماني بأهمية الفخار والخزف الذي يمثل جزءًا من الهوية الثقافية، خاصةً مع الجهود المبذولة من الجهات المعنية والحرفيين أنفسهم، مشيرةً إلى أهمية دمج هذه الحرف في المناهج التعليمية، وتنظيم المعارض وحلقات العمل التفاعلية، والترويج الإعلامي الذي يُظهر القيمة التاريخية والجمالية لهذه الصناعة؛ لتعزيز هذا الوعي عند الأجيال القادمة.

ومن الطين إلى الفضة والفولاذ، تلمع الخناجر العُمانية في يد الحرفيين والصنّاع في هذا المجال، ومن بينهم ياسر بن ناصر الفارسي، الذي يقول إنّه ورث هذه المهنة عن والده، إذ عمل أجداده فيها وأصبحت ملازمةً لعائلته قبل أكثر من 150 عامًا.
وتابع الفارسي أنّ:
هناك أنواعًا عديدة من الخناجر العُمانية وتختلف صياغتها ونوعها بحسب مناطق وولايات سلطنة عُمان، وهي الخنجر السعيدي والنزواني والصوري والباطني والسدحي ” السدحات “.
وأوضح أنّ:
الرجل العُماني لا يزال متمسكًا باقتناء، وارتداء الخنجر في مختلف المناسبات حتى أصبح ميزةً وعلامةً يُعرف بها أينما حل وارتحل، وأصبح الخنجر جزءًا ثقافيًّا يمكن التسويق له واستثماره سياحيًّا على المستوى العالمي، لافتًا إلى القيمة الثقافية للخنجر العُماني الذي يمثل شعار سلطنة عُمان.

ويرى الفارسي أنّ:
للحرفي دورٌ أساسي في الحفاظ على المهن العُمانية وتوريثها للأجيال القادمة لكي تستمر ولا تندثر مع الأيام، إذ تُشكل هذه المهن جانبًا مهمًّا من الموروث العُماني من خلال ارتباط المجتمع رجالاً ونساءً بهذه الصناعات التي تعد مظهرًا عامًا يميز من يعمل فيها أو يقتنيها للاستخدام أو الزينة.
وأكد الفارسي على:
ضرورة دعم الحرفيين والمهنيين من خلال متابعة السوق، إذ أصبح عددٌ من غير المتخصصين من العمالة الوافدة يعمل في هذا المجال ويُدخل على هذه الصناعات التقليدية أنماطًا تشوّه هذا الإرث العريق، إلى جانب التأكيد على أهمية توفير الدعم اللازم لهم للتواجد في مختلف المناسبات والمحافل داخل سلطنة عُمان وخارجها.
وفي المناطق الواقعة خلف الجبال والتي تسمى “ظل المطر” بجانب المنحدرات المنخفضة، وفي بطون الأودية تنبت شجرة اللُبان التي كان لها دور بارز تاريخي واستمرت إلى وقتنا الحاضر كونها مصدر وثروة طبيعية ويستخلص منها العديد من المنتجات التي تستخدم في صناعة الزيوت العطرية وبعض العلاجات الطبية.

وعن شجرة اللُبان تقول ابتهال بنت سعيد الهاشمية، حرفية في مجال صناعة المنتجات المشتقة من اللُبان:
تُعد شجرة اللُبان من الموروثات التي حافظ عليها أبناء محافظة ظفار، ولها تاريخ كبير يشكل موسوعة للباحثين والمهتمين لاكتشافها وتتبع تاريخها، مبينةً أنّ منتوجات هذه الشجرة لها العديد من الاستخدامات منها تعطير المنازل برائحة بخورها، إلى جانب استخدامها في علاج بعض الأمراض.
وأضافت الهاشمية أنّ:
بدايتها في هذا المجال كانت مع مشروع التخرج من كلية الصيدلة بجامعة نزوى، إذ عملت خلال مشروعها على استخلاص الزيت من اللبان ذو الفائدة الطبية، لافتةً إلى أنها تقوم حاليًا بإنتاج بعض المستخلصات من هذه الشجرة التي تساعد في علاج بعض التهابات المفاصل.
وأكدت على:
أهمية الترويج لمنتجات مشتقات شجرة اللُبان داخليًا وخارجيًا، خاصة لما يمثله من أرث في التاريخ العُماني، لجودة هذه المنتجات وشهرتها الواسعة في العالم، فهي تمثل واحدةً من مظاهر الهوية العُمانية، إلى جانب التأكيد على ضرورة الوعي بأهمية استمرار منتجات شجرة اللُبان من خلال نشر معلومات عنها وإقامة محاضرات توعوية لطلبة المدارس والجامعات، لأنهم حلقة الوصل للمجتمع، مبينةً أنّ جودة اللبان العُماني تحتاج من العاملين في هذا المجال إلى بذل المزيد من الأفكار الإبداعية حتى يلاقي انتشارًا أوسع في الأسواق العالمية.
وأشارت إلى:
بعض التحديات التي يواجهها الحرفيين في هذا المجال من بينها عملية اختيار اللبان ذو الجودة العالية، وتجديد وابتكار منتجات تواكب العصر الحديث من خلال التعليب والتصميم واختيار شعار احترافي ومميز يعطي دلالةً على الهوية العُمانية.

يظل الحرفي العُماني رمزًا حيًا لارتباط الإنسان بأرضه وثقافته، فهو من يصوغ بأنامله تراثًا يتجاوز الزمان، وينقل للأجيال القادمة قصة وطن تجذرت حضارته في عمق التاريخ، ومن خلال حفاظهم على هذه المهن التقليدية، يسهم الحرفيون بشكل فاعل في ترسيخ الهوية العُمانية وتعزيز حضورها في المحافل المحلية والدولية، ليبقى التراث العُماني نابضًا بالحياة، حاضنًا للقيم، ومعبرًا عن روح الأصالة والتجدد.