اللغة العربية: هوية وثقافة في العصر الرقمي

الدكتور زاهر: أصبح الذكاء الاصطناعي فرصة لاستفادة العربية من البرمجيات والخوارزميات التقنية.
اليوم العالمي للغة العربية
اليوم العالمي للغة العربية

الإثنين,16 ديسمبر , 2024 9:51ص

 تحتفل سلطنة عُمان باليوم العالمي للغة العربية هذا العام تحت عنوان “اللغة العربية والذكاء الاصطناعي: تعزيز الابتكار مع الحفاظ على التراث الثقافي”، الذي يصادف الـ18 من ديسمبر الجاري، وفق ما أعلنت عنه أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو”، اعتزازًا بلغة الضاد الخالدة، والمتجذرة بأصولها في قدم التاريخ، والأداة الفاعلة في تعزيز التواصل الاجتماعي والحضاري للبشرية.

ولأن اللغة العربية تمثل الهُوية والحضارة؛ فقد اعُتمدت كإحدى اللغات الرسمية الـ6 المعتمدة في الأمم المتحدة، بيانًا لفضلها، واعترافًا بأهميتها، وتأكيدًا لتأثيرها الحضاري والعلمي والثقافي المباشر وغير المباشر على كثير من اللغات الأخرى.

جملة من التساؤلات في سياق العلاقة بين اللغة العربية والذكاء الاصطناعي مع عدد من المختصين في سلطنة عُمان تشخص الأدوار التي من الممكن أن يقوم بها الذكاء الاصطناعي من أجل تطوير اللغة العربية لتكون أكثر حضورًا مع الناطقين بغيرها، والطرق التي يساعد فيها الذكاء الاصطناعي من أجل حفظ وتوثيق التاريخ العربي بما فيها المخطوطات التاريخية والحفاظ على التاريخ الثقافي غير المادي بكافة فروعه ومنه التاريخ الشفهي واللهجات المتعددة، مرورًا بدعم الذكاء الاصطناعي للغة من أجل التعريف بالهوية الثقافية والتاريخية للمجتمعات الناطقة بالعربية.

في هذا السياق يقول الكاتب والأديب الدكتور هلال بن سعيد الحجري:

الجامعات والمؤسسات التربوية في العالم العربي ما تزال تفتقر إلى الدراسات الرائدة في الذكاء الاصطناعي ودوره المحتمل في التعليم خاصة في مجال اللغة العربية.، وكل ما يمكن الاعتماد عليه حتى الآن هو الدراسات التي اكتشفت العلاقة بين هذه الطفرة التقنية الهائلة واللغة الإنجليزية وبعض اللغات الأوروبية الحية مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية. ومن هنا؛ يمكن لبعض المنظمات الإقليمية المعنية بالترجمة والتعريب واللغة العربية أن تبادر إلى عقد مؤتمرات تستكشف تطبيقات الذكاء الاصطناعي وإمكانية الإفادة منه في تعليم اللغة العربية للناطقين بها أو الناطقين بغيرها.

ويضيف:

يمكننا الآن أن نستأنس بما توصلت إليه الأبحاث في اللغات الأخرى وتطبيقه على اللغة العربية. على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد معلمي اللغة العربية على تصميم الدروس والأنشطة التي تركز على المفردات ومواقف التواصل ذات الصلة بمجالهم. وبهذه الطريقة، يتم تعزيز فعالية التعلم إلى الحد الأقصى وتسهيل اكتساب المهارات اللغوية المتخصصة، ومن المعروف أن دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم قد ولّد تقدمًا وفرصًا كبيرة في تعلم اللغات بشكل عام؛ فقد أدى الذكاء الاصطناعي إلى تطوير روبوتات الدردشة مثل (تشات جي بي تيChatGPT) التي تعطي الطلاب فرصة لممارسة مهارات التحدث بشكل تفاعلي، كما تمكنهم من تحسين التغذية الراجعة الفورية في تصحيح التمارين الكتابية والشفوية؛ مما يسهل عملية التعلم ويعزز استقلالية الطالب. يُترجم هذا التكيف مع احتياجات وأساليب التعلم لكل فرد إلى وصول شخصي إلى تعلم اللغة ويضمن فعاليته وديناميكيته.

تعبيرية.

ويؤكد:

أن الذكاء الاصطناعي قادر على مساعدة المعلمين في تخصيص الفصول الفردية، وإنشاء المواد التعليمية، وتوفير موارد وأنشطة محددة لكل متعلم. كما أنه باستخدام الخوارزميات وتحليل البيانات، يمكن للمعلمين تحديد نقاط القوة والضعف لدى كل طالب وتكييف تدريسهم وفقًا لذلك. كل هذا يفضي إلى تحسين جودة التدريس وتعظيم الأداء وإرضاء الطرفين: المعلم والطالب. وبالمثل، فإنها تقدم مصدرًا لا ينضب عمليًّا من المعلومات، لذلك يسلط العديد من الباحثين الضوء على أن روبوتات الدردشة يمكنها تعزيز التعلم المستقل للطلاب كما يمكنها أن تلعب دورًا مهمًّا في جمع البيانات حول تقدم تعلم الطلاب؛ مما يسهل الاكتشاف السريع للأخطاء والعقبات التي يواجهونها.

كما أنه بفضل التقدم الذي شهدته العقود الأخيرة في مجال التقنيات الجديدة والذكاء الاصطناعي واللغويات الحاسوبية ومعالجة اللغات الطبيعية، أصبحت أدوات الترجمة الآلية مثل (ترجمة جوجل) أداة رئيسة للمترجمين واللغويين وطلاب اللغات الأجنبية.

ويشير في سياق حديثه:

لقد أصبحت هذه النماذج اللغوية المتطورة، المدعومة بالتقدم الرائد في الذكاء الاصطناعي، منتشرة بشكل متزايد في حياتنا، مما يوفر فرصًا كبيرة لتوظيفها في تعليم اللغة العربية، ولكن بتحديات كبيرة؛ إذ إن قدرتها على إنتاج نصوص متماسكة وذات صلة بالسياق لم تُحدث ثورة في التفاعلات بين البشر والآلات فحسب، بل أثارت أيضًا أسئلة أخلاقية حاسمة؛ فالاستخدام المتزايد لهذه النماذج اللغوية في الأوساط الأكاديمية والعلوم يثير قلقًا حول سوء الاستخدام المحتمل لها وتقليل مشاركة الإنسان في المهام المتعلقة باللغة.

ويبّين الحجري:

تعد هذه الطفرة التقنية حليفًا جيدًا ممكنًا لمعلمي اللغة العربية ودارسيها وتضمن تعلمًا أكثر فعالية وكفاءة. خاصة في حالة تدريس العربية لأغراض محددة لأنه يسهّل عملية إنشاء المواد التعليمية ويسرّع تكييفها، لا شك أننا نعيش في بداية حقبة جديدة ستغير طريقة تعلمنا وتعليمنا للغة العربية، سيجلب هذا العصر التقني الجديد معه العديد من الفرص والتحديات للمعلمين والطلاب، وعلينا أن نكون مستعدين لمواجهة التحدي والتكيف مع الواقع الجديد.

كما تقول الدكتورة هدى بنت مبارك الدايرية، رئيسة قسم الشؤون الثقافية باللجنة الوطنية العمانية للتربية والثقافة والعلوم إن:

تخصيص منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة – اليونسكو يوم الثامن عشر من ديسمبر من كل عام للاحتفاء باللغة العربية ما هو إلا تخليدٌ لمآثرها، وإحياءٌ لدورها كوسيط لغوي لنقل العلوم والمعارف المختلفة عبر العصور، وتكريمٌ للناطقين بها، إذ يتحدث بها ما يربو عن 400 مليون نسمة حول العالم، وتستوعب أكثر من (12) مليون كلمة، وهي اللغة الرسمية في (25) دولة فلا عجب في ذلك، فهي لغة القرآن الكريم وكفى به من شرف.

وتضيف:

إن الثراء اللغوي لمفردات اللغة العربية في مجالات العلوم المتنوعة كالفنون والشعر والهندسة والطب والصيدلة وغيرها نلتمسه في عدد من الحضارات اليوم؛ بما يدل دلائل مؤكدة على مكانة اللغة العربية وتأثيرها العالمي. فاللغة ليست وسيلة تواصل فقط، بل هي الأداة الَّتي يتعلَّم ويفكِّر بها الإنسان، ومصدر ثرائه اللغوي والثقافي.

وتؤكد:

في هذا العام 2024، اعتمدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة المحور الرئيس لليوم العالمي للغة العربية ليكون بعنوان:” اللغة العربية والذكاء الاصطناعي: تعزيز الابتكار مع الحفاظ على التراث الثقافي”، للسعي نحو تأصيل الدور الحضاري الذي تضطلع به اللغة العربية كأداة لنقل المعارف، وإحدى أدوات ترسيخ الأمن والسلام بين شعوب العالم؛ وهذا بلا شك يؤطر العلاقات الإنسانية، ويعزز تواصلها في المجالات الحضارية المختلفة، لاسيما في ظل الرقمنة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، والتعددية الثقافية، وحفظ التراث الثقافي واستدامته، وفي هذه المناسبة نشير إلى نجاح سلطنة عُمان في إدراج أحمد بن ماجد المّلاح العُماني ضمن برنامج اليونسكو للذكرى المئوية أو الخمسينية للأحداث التاريخية المهمة والشخصيات المؤثرة عالميًّا، وذلك خلال انعقاد أعمال الدورة الـ41 للمؤتمر العام لليونسكو بمقر المنظمة بباريس بتاريخ 11 نوفمبر من عام 2021، نظرًا للأدوار الجليلة التي قام بها ابن ماجد في هذا الشأن؛ إذ تمكن من وضع أسس الملاحة البحرية وقواعدها، متخذًا من اللغة العربية نقطة عبور للعالمية، إذ يظهر جليًا في مخطوطاته، التي تضمنت عددًا لا يستهان به من القصائد والأراجيز الشعرية، وبذلك يخلد اسم ملاح عُمان وشاعرها الكبير في قائمة مبدعي العالم، وقبله الخليل بن أحمد الفراهيدي عالم اللغة الأول، التي كان لإسهاماته الأثر الأكبر في مجال النهوض باللغة العربية؛ من تأليفه لمعجم العين -المعجم الأول للغة العربية، وتفسيره لفكرة الجذور الثنائية والثلاثية والرباعية والخماسية للأفعال في اللغة العربية، وتأسيسه لعلم العروض ، وعلم أصول النحو وقواعده.

تعبيرية.

وتوضح:

من الشخصيات العُمانية المؤثرة عالميًا، شاعر عُمان الكبير أبو مسلم البهلاني، الذي يعد بحق الشخصية الموسوعية؛ فهو صحفي ولغوي وشاعر وفقيه، وله من الممكنات التي قادت اللغة العربية إلى آفاق أرحب وأوسع لاسيما في مجال الصحافة والأدب خاصة الشعر. كما يأتي إدراج الخط العربي كملف مشترك مع (15) دولة عربية أخرى في الـ 14 من ديسمبر من العام 2021 على هامش الاجتماع السادس عشر للجنة الدولية الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي، ليحكي نجاح تجربة أخرى تضاف لسلطنة عُمان، كون الخط العربي يُشكل أحد مفردات الحضارة العربية، ويصون الهُوية الثقافية، ويُعزز الحوار بين الثقافات العالمية.

ويشير الدكتور زاهر بن بدر الغسيني، الأستاذ المشارك بقسم اللغة العربية وآدابها، بجامعة السلطان قابوس إلى أن:

استقراء المشهد الثقافي المعاصر يُثبت بأن العلاقة بين اللغة العربية والذكاء الاصطناعي هي علاقة تأثير وتأثر، فقد بات حتمًا على اللغة العربية أن تعيش إرهاصات ثورة الذكاء الاصطناعي التي فرضت نفسها على العالم، وأن تستفيد العربية من النهضة المعرفية والعلمية في توسيع قاعدة الناطقين بها. إن ما يميز لغة القرآن الكريم بأنها لغة ذات بناء وخصائص تبدو صعبة للناطقين بغيرها أو حتى الناطقين بها أيضًا، لكونها لغة ذات خصائص لغوية معقدة منها الاشتقاق اللغوي مثلاً، الذي مكَّن العربية من توليد ألفاظ احتاجتها العربية في مسايرة متغيرات العالم.

ويضيف:

أصبح الذكاء الاصطناعي فرصة لاستفادة العربية من البرمجيات والخوارزميات التقنية التي يُمكن أن تُيسر الفهم اللغوي وتعلم اللغة العربية ومزاحمتها للغات العالمية، وتفرض هذه المرحلة على الحكومات العربية الاستفادة من النهضة التقنية والعلمية في بناء سياسات تستثمر نهضة الذكاء الاصطناعي في خدمة اللغة العربية ومواجهة التحديات التي تحدُّ من توسع انتشارها عالميًا.

ويبيّن قوله:

أرى شخصيًا أن أكبر تحدٍ سوف يواجه اللغة العربية في مُعترك الثورة التقنية وتطور برمجياتها وأنظمتها ينحصر في جانبين: الأول: طبيعة اللغة العربية مقارنة باللغات العالمية الأخرى، إذ تتسم العربية بخصائص نطقية مثل التنوين، واختلاف دلالة الكلمة من حيث نوع المخاطب، الذي يجعل الكلمة تصل للمتلقي بأكثر من صورة وشكل لغوي، وهذا قد يُعقّد بناء برمجيات وأنظمة يمكن أن تعطي صورة صحيحة للكلمة العربية في سياقها اللغوي ودلالتها المعنوية.

ويضيف:

التحدي الثاني فيتمثل في كيفية استفادة العربية من التطور التكنولوجي مُمثلاً في الذكاء الاصطناعي دون أي تأثير سلبي ينعكس على قيمة اللغة العربية في خصوصيتها وسماتها اللغوية والنطقية، فإن أخذنا مثلاً ما يُستخدم اليوم في البرمجيات بما يُسمى (شات جي بي تي) أو توظيف (الرد الآلي)، فإن هذه التقنيات ما تزال غير قادرة على تجاوز قدرة البشر في نطق الحرف العربي بالصورة نفسها التي ينطقها المتكلم بالعربية، وضبط القواعد اللغوية ومخارج الحروف بصورتها الصحيحة.

ويؤكد:

هذا قد يُرسخ صورة ذهنية لدى المتعلم عن نطق الحرف العربي في غير حقيقته الأصلية. وقد يؤثر الذكاء الاصطناعي سلبًا في عقل الناطق بالعربية وفهمه للسياق اللغوي وقيمة الكلمة بين طياته، خاصة فيما يتعلق بالأوزان الصرفية والنحو العربي الذي يُمثل رياضيات العربية، وبالتالي فإن وجود برمجيات بديلة قد يصيب العقل العربي بالخمول العِلمي في تحليل السياق التركيبي، والبحث عن أسهل طريق لإعراب الكلمة أو اشتقاق للكلمة دون إعمال للعقل. ومع وجود هذه السلبيات؛ فإنه يؤمل بالمقابل أن يؤدي الذكاء الاصطناعي أدوارًا لتطوير اللغة العربية من خلال إيجاد برمجيات تتعامل مع خصائص العربية مثل الاشتقاق اللغوي وتصريف الكلمات التي تبدو مُعقدة، وأيضًا تطوير أنظمة المحاكاة اللغوية التي تتقارب نسبيًا مع النطق العربي الصحيح، وتبني أنظمة للترجمة تُمكن العربية من الانفتاح الثقافي والفكري ومزاحمة الناطقين بغيرها. ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يخدم اللغة العربية فيما يتعلق بالمخطوط العربي الذي يمثل إشكالية كبيرة لدى الباحثين في قراءة خطوطه القديمة التي كُتبت ونُسخت باليد، وبالتالي فإن وجود برمجيات تُسهل قراءة خطوط التدوين تشجع الباحثين أكثر على الاقتراب من المخطوطات العربية التي تمثل كنزًا وإرثًا ثقافيًا كبيرًا. أضف إلى ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي دورًا فاعلًا في علاج الأخطاء اللغوية الشائعة التي تنتشر في النسق التداولي اليوم، إذ إن وجود برامج وأدوات إملائية وتدقيق لغوي قد يُقلل من انتشار الأخطاء التي أصبحت ظاهرة أصابت اللغة العربية بالخلل في نسقها التداول اليومي.

ويشير سعيد محمد الكلباني، باحث في أسس الذكاء الاصطناعي، وعضو الجمعية العُمانية لتقنيات التعليم إلى أن:

اللغة العربية هي الحدث الأكثر إثارة للدهشة في تاريخ البشرية، لأنها ظهرت فجأة كلغة كاملة، ولم يطرأ عليها أي تغيير ملحوظ. أي أنه ليست لها طفولة، وليس لها شيخوخة، هذا ما قاله المستشرق الفرنسي “إرنست رينان” عن لغتنا العربية وهو بذلك يؤكد ثباتها وعدم تحولها رغم الصراعات التي تخوضها بفعل مختلف التغيرات ومنها التقنية.

ويضيف بقوله:

إنّ ثورة التحول المعرفي الذي نعايشه، والمدفوع بالتقدم التكنولوجي والذكاء الاصطناعي المؤثر في مختلف المجالات، يتجلى فيها تلاقٍ بين الثوابت والمتحولات ينعكس على مرآة واقعنا المشحون بالهوية والثقافة والتاريخ والحداثة؛ وبطعم الصراع بين لغتنا وما تحمله من إرثٍ وعاطفةٍ وروح وبين لغة الآلة ذات المنطق الرقمي الجامد.

ويقول:

نشهد حوارًا عميقًا وتفاعلًا شديدًا بين أفقين وعالمين ولا نعلم يقينًا من منهما يقود الآخر، هل اللغة العربية تقود الذكاء الاصطناعي وتؤطره حسب مكنوناتها الثرية؟ أم أنّ الذكاء الاصطناعي كتقنية يقود اللغة العربية ويؤطرها حسب خوارزمياته وقدراته؟ للتقارب، ولكي يتضح هذا المنظور أكثر ويغدو قابلًا للفهم ، ينبغي لنا أولا إيجاد نقاط العلاقة بينهما. والتي نرى بأنها تنبع من فهمين مختلفين في التركيب، وهما: الفهم البشري القائم على التجارب الوجدانية والثقافة الإنسانية المتراكمة، والفهم الآخر الآلي المجرد القائم على مجموعة من عمليات التحليل الإحصائي التي تجريها الخوارزميات على مجموعة بيانات مستمدة من إرث الإنسان.

ويؤكد في سياق حديثه:

إنّ الذكاء الاصطناعي يعمل وفق معاجم رقمية، وبيانات لغوية ضخمة تحمل ثقافة وتاريخ مستخدميها، وتقنيات استدلال متقدمة تتعامل مع التعقيد اللغوي المعروف في اللغة العربية، والمقترن – كما نعلم جميعًا – بقواعد مختلفة وبنىً نحوية وصرفية متعددة. مما يسهم في “فهم” اللغة – إن صح القول- ودعمها بإنتاج التطبيقات المساعدة كالتعرّف على الكلام، والترجمة الآلية، وتوليد النصوص، واستخراج المعلومات، والأنماط المختلفة من المحتوى العربي؛ وبالتالي يسهم أيضاً في الكشف عن النصوص المغمورة المنطوية على خلفيات ثقافية للمعارف المتداولة على مر التاريخ ويدعم بها الفكر الحالي محليًّا وعالميًّا؛ ولكن حسب الدراسات البحثية، فإن الذكاء الاصطناعي يعجز في بعض الحالات عن التعامل مع مضمون السياقات الواردة في اللغة العربية. وكمثال على ذلك: وجود كلمة “عين” في سياق ما؛ ربما تتسبب في تشتته – والضمير عائد إلى الذكاء الاصطناعي- بين معانيها المختلفة التي تربو على الخمسين مثل : نبع الماء، حاسة البصر، كبير القوم، إشارة للحسد إلخ، وبذلك فإنّ نقطة الالتقاء هنا لابد لها وأنْ تعصف بأحدهما وتؤطره، وحتمًا فاللغة العربية هي من ستؤطر الذكاء الاصطناعي لتدني قدراته في التعامل مع مضمونها وغزارتها من الكلمات والمعاني والمجازات والتشبيهات والاشتقاقات، ومن التحديات الأخرى أنّ خصوصية اللغة العربية في تباين كلماتها ولهجاتها حسب ثقافة وجغرافية الوطن العربي، يشكل عائقًا أمام نماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية المعتمدة حاليًّا على اللغة العربية الفصحى وحدها وبالتالي سينطمس الكثير من الفكر الذي تحمله اللغة العربية الوسطى المشتقة من العربيات المحكية في الوطن العربي والغزيرة بمكوناتها، وهذا ما يستدعي منّا أن نُخضع الذكاء الاصطناعي بتطويره ودعمه ليتناسب مع لغتنا وخصوصياتها وليس العكس بأن نتجاهل ونطمس جزءًا أصيلًا من اللغة العربية لنساير فقط ركب التقنية، وعلينا توفير البيانات الصحيحة النظيفة ذات الجودة، ونبتكر ونبدع تقنيًا بتمكين وتوطين الذكاء الاصطناعي من خلال تطوير نماذج لغوية تراعي خوارزمياتها اللغة العربية وخصائصها، وإنشاء المنصات التعليمية الذكية لتعليم العربية للناطقين بغيرها، وتطوير تطبيقات ذكية للتدقيق اللغوي والنحوي، وكل ذلك لجعل اللغة العربية متاحة للجميع في العالم الرقمي، مع إكسابها الدقة والانتشار المرغوبين على المستويين المحلي والعالمي.

ويختتم قوله:

إنّ اللغة العربية ليست للأفراد فقط، وإنما لمجتمعات ومؤسسات وأوطان. وعليه، يتطلب حضورها وتمكينها التعاون وتنسيق الجهود، وتطوير شراكات بين المؤسسات الأكاديمية وشركات التكنولوجيا، وتشجيع مشاريع مفتوحة المصدر في مجال معالجة اللغة العربية، ودعم جهود البحث والابتكار والتطوير والحوار من خلال المختبرات التقنية والمؤتمرات والندوات وغيرها، فاللغة العربية من ثوابت المجتمعات والحياة، بينما التقنية من متغيراتها، فلا تجعلوا الثوابت متغيرات، والمتغيرات ثوابت، فتضمحل عندها ثقافة وحضارة الأوطان المختزلة في لغاتها.